فصل: باب ذكر خلافة الأمين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ خروج خارجي يقال له‏:‏ ثروان بن سيف وكان يتنقَّل فيِ السواد فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه وجرحه وقتل عامة أصحابه وهرب مجروحًا ‏.‏

وفيها‏:‏ خرج أبو النداء بالشام فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ وعقد له على الشام ‏.‏

وفيها‏:‏ ظفر حماد بهيصم اليمانيّ ‏.‏

وفيها‏:‏ غلظ أمر رافع بن الليتَ بسَمَرْقَنْد وكتب إليه أهل نسف يعطونه الطاعة ويسألونه أن يبعث إليهم مَنْ يعينهم على قتل عيسى بن علي فوجَّه قائدًا من قواده فقتل عيسى بن علي في وفيها‏:‏ غزا يزيد بن مخلد الهبيريّ أرض الروم في عشرة آلاف فأخذ الروم عليه المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه وسلم الباقون ‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان وولى غزو الصائفة هرثمة بن أعْين وضمّ إليه ثلاثين ألفًا من جند خراسان ومعه مسرور الخادم إليه النفقات وجميع الأمور خلا الرئاسة ومضى الرشيد إلى درب الحدث فرتَب هناك عبد الله بن مالك ورتب سعيد بن سلم مقيمًا بها فأغارت الروم عليها وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بن سلم مقيم بها وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرطوس وأقام الرشيد بحرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان ثم انصرف إلى الرقة وأقام ‏.‏

وأمر الرشيد بهم كنائس الثغور وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بذلك ويأخذ أهل الذمة من مدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم ‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خُراسان وولاها هرثمة واستصفى أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف ‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الثلج بمدينة السلام وكان مقداره أربعة أصابع مفرجة ‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الفضل بن العباس بن محمد بن علي وكان والي مكة ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

البختري بن محمد البختري أبو صالح اللخمي المعدل ‏.‏

حدث عن كامل بن طلحة ‏.‏

روى عنه‏:‏ الطبراني ‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ لا بأس به ‏.‏

توفي في هذه السنة ‏.‏

خالد بن حيان أبو يزيد الخراز الرقي ‏.‏

سمع جعفر بن برقان وفرات بن سلمان ‏.‏

روى عنه‏:‏ أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وقال‏:‏ هو ثقة ‏.‏

وكان شديد التحفظ في الضبط والتوقي نزل الرقة فتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة ‏.‏

عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أبو عمرو الهمداني الكوفي رأى جده أبا إسحاق إلا أنه لم يسمع منه وسمع إسماعيل بن أبي خالد وهشا م بن عروة والأعمش والأوزاعي وشعبة ومالك بن أنس وابن إسحاق ‏.‏

روى عنه‏:‏ القعنبي ويحيى بن معين وعلي بن المديني وابن راهويه وكان ثقة ثبتًا وانتقل عن الكوفة إلى بعض ثغور الشام فسكنها ‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ كنا نخبر أن عيسى كان سنة في الغزو وسنة في الحج وقد كان قدم بغداد فأمر له بمال فلم يقبله ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا أحمد بن سليمان بن علي المقرىء أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس أخبرنا علي بن حسين النديم أخبرنا الحسين بن عمر الثقفي حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي حدثنا عمر بن أبي الرطيل عن أبي بلال الأشعري عن جعفر بن يحيى بن خالد قال‏:‏ ما رأينا مثل عيسى بن يونس أرسلنا إليه فأتانا بالرَقة فاعتل قبل أن يرجع فقلنا له‏:‏ يا أبا عمر قد أمر لك بعشرة آلاف ‏.‏

فقال‏:‏ هيه فقلت‏:‏ هي خمسون ألفًا ‏.‏

فقال لي‏:‏ لا حاجة لي فيها ‏.‏

فقلت‏:‏ ولم أما والله لاهنيتكها هي واللّه مائة ألف ‏.‏

قال‏:‏ لا واللّه لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنًَا ألا كان هذا قبل أن ترسلوا إلي ‏.‏

فأما على الحديث فو الله لا شربة ماء ولا أهليلجة‏!‏ ‏.‏

توفي في هذه السنة بالحدث ‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة إحدى وثمانين ‏.‏

وقيل‏:‏ سبع وثمانين وقيل‏:‏ ثمان وثمانين ‏.‏

مخلد بن الحسين أبو محمد ‏.‏

كان من أهل البصرة ونزل المصيصة وتوفي بها في هذه السنة وقد أسند عن هشام بن أخبرنا محمد بن عبد الباقي أخبرنا حمد بن أحمد أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن جعفر حدَّثنا أحمد بن الحسين الحداد حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدَّثنا عبد اللهّ بن عبد اللّه قال‏:‏ قال مخلد بن الحسين‏:‏ ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر عنها منذ خمسين سنة ‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ شخوص هرثمة إلى خراسان واليًا عليها فأخذ علي بن عيسى وقيَّده وأخذ ماله ومال أولاده وأصحابه وأقامه للناس ليرد المظالم ‏.‏

وفيها‏:‏ ولي ثابت بن نصر بن مالك الثغور وغزا فافتتح مطمورة وكان الفداء بين المسلمين والروم ‏.‏

وفيها‏:‏ خرجت الخُرمية في الجبل وناحية أذربيجان فوجَّه إليهم عبد اللّه بن مالك بن الهيثم الخزاعي فأسر منهم وقتل وسبى ذراريهم وقدم بهم بغداد فبيعوا وكان قد غزاهم قبله خزيمة وفيها‏:‏ وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام يريد الشخوص إلى خُراسان لحرب رافع وكان مصيره بغداد يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر واستخلف بالرقة ابنه القاسم وضم إليه خزيمة بن خازم ثم شخص من مدينة السلام عشية الاثنين لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر من الخيزرانية فبات في بستان أبي جعفر وسار من غد إلى النهروان فعسكر هناك ورد حمادًا البربري إلى أعماله واستخلف ابنه محمدًا بمدينة السلام وخرج وهو مريض ‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الرشيد بنقض جامع المنصور وبنيانه ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا إبراهيم بن مخلد أخبرنا إسماعيل بن علي الحبطي قال‏:‏ وهم مسجد أبي جعفر وزيد في نواحيه وجدد بناؤه وأحكم وكان الابتداء فيه في سنة اثنتين وتسعين والفراغ منه في سنة ثلاث وتسعين ومائة ‏.‏

وفيها‏:‏ قدم يحيى بن معاذ بأبي النَداء على الرشيد وهو بالرقة فقتله وقتل الهيصم اليماني ‏.‏

وفيها‏:‏ تحرك ثرْوان الحَروري وقتل عامل السلطان بطف البصرة ‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الفضل بن العباس بن محمد بن علي وكان والي مكة ‏.‏

وقيل‏:‏ بل حج بهم العباس بن عبد الله بن جعفر بن المنصور ‏.‏

إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن وداعة أبو القاسم ‏.‏

كان يحفظ القرآن - فيما ذكر الأصفهاني - إلا أنه اشتهر بالغناء ‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنطاكي أخبرنا أبو الحسن بن الطيوري أخبرنا أبو محمد الجوهري أخبرنا أبو عمرو بن حيوية أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان حدثنا حماد بن إسحاق قال‏:‏ أخبرني أبي قال‏:‏ قال ابن جامع‏:‏ كان أبي ينهاني عن الغناء ويعذبني عليه ويضيق عليّ فهربت منه إلى أخوالي وكانوا ينزلون بحران فأنزلوني في مشرعة على نهر فإني أشرف منها على نهر إذ طلعت سوداء معها قربة فنزلت إلى المشرعة فجلست و وضعت قربتها واندفعت تغني‏:‏ إلى الله أشكو بخلها وسماحتي لها عسل مني وتبدل علقما فردي مصاب القلب أنت قتلته ولاتتركيه هائم القلب مغرما قال‏:‏ فاستفزني ما لا قوام لي به ورجوت أن ترده فلم تفعل وأخذت القربة ونهضت فنزلت أعدو خلفها وقلت‏:‏ يا جارية فوقفت فقلت لها‏:‏ بأبي أنت وأمي ردي الصوت ‏.‏

قالت‏:‏ ما أشغلني عنك ‏.‏

قلت‏:‏ بماذا قالت‏:‏ علي خراج كل يوم درهمين ‏.‏

فأعطيتها درهمين فوضعت القربة وجلست تغنيه حتى أخذته وانصرفت فلهوت يومي به وبت فأصبحت وما أذكر منه حرفًا واحدًا وإذا أنا بالسوداء قد طلعت ففعلت كفعلها الأول إلا أنها تغنت غير ذاك الصوت فنهضت وعدوت في أثرها وقلت‏:‏ الصوت قد ذهب عني نغمته ‏.‏

فأبت أن تعيده إلا بدرهمين فأعطيتها فأعادته فذكرته فقلت‏:‏ حسبك ‏.‏

فقالت‏:‏ كأنك تكاثر فيه بأربعة دراهم كأني والله بك وقد أصبت فيه أربعة آلاف دينار ‏.‏

قال ابن جامع‏:‏ فبينا أنا أغني الرشيِد وبين يديه أكيسة أربعة وفي كل واحد ألف دينار قال‏:‏ مَنْ أطربني فله كيس وعن لي والله الصوت فغنيته فرمى إليَ بكيس ثم قال لي‏:‏ أعد فأعدت فرمى إلي بكيس آخر ثم قال لي‏:‏ أعد فأعدت فرمى إلي بكيس فتبسمت فقال لي‏:‏ مم تضحك فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لهذا الصوت حديث عجيب فحدثته الحديث فضحك ورمى إلي بالكيس الرابع وقال‏:‏ لا تكذب السوداء ورجعت بأربعة آلاف دينار وقد روى نحو هذه الحكاية أبو الفرج علي بن عيسى الأصفهاني‏:‏ أن ابن جامع قال‏:‏ انتقلت من مكة إلى المدينة لشدة لحقتني فأصبحت يومًا وما أملك إلا ثلاثة دراهم فهي في كمي إذا بجارية في يدها جرة تريد الركي تسعى بين يدي وترنم بصوت شجي‏:‏ شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى جزعنا وهم يستبشسرون إذا دنا فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا قال‏:‏ فأخذ الغناء بقلبي ولم يدر لي منه حرف فقلت‏:‏ يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك فلو شئت أعدت ‏.‏

قالت‏:‏ حبًا وكرامة ثم أسندت ظهرها إلى جدار ثم انبعثت تغنيه فما دار لي منه حرف فقلت‏:‏ لو تفضلت مرة أخرى فغضبت وكلحت وقالت‏:‏ ما أعجب أحدكم يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها فضربت يدي إلى الدراهم الثلاثة فدفعتها إليها فأخذتها وقالت‏:‏ تريد أن تأخذ مني صوتًا أحسبك تأخذ به ألف دينار وألف دينار وألف دينار ثم غنت ففهمته ثم سافرت إلى بغداد فآل الأمر إلى أن غنيت الرشيد بهذا الصوت فرمى إلي ثلاثة أكياس فتبسمت فأخبرته خبر الجارية ‏.‏

أخبرني بعض آهل الأدب قال‏:‏ كان إسماعيل بن جامع قد تزوج بالحجاز جارية سوداء مولاة لقوم يقال لها مريم فلما صار من الرشيد بالموضع الذي صار به اشتاق إلى السوداء فقال يذكر الموضع الذي كان يألفها فيه ويجتمعان فيه‏:‏ هل ليلة بقفا الصحصاح عائدة من قبة ذات أشراح وأزرار تسمو مجامرها بالمندلي كما تسمو بحباته أفراح أعصار ومريم بين أتراب منعمة طورًا وطورًا تغنيني بأوتار فقال الرشيد‏:‏ ويلك‏!‏ مَنْ مريمك هذه التي وصفتها صورة الحور العين ‏.‏

قال زوجتي ثم وصفها كلامًا أكثر مما وصفها شعرًا فأرسل الرشيد من الحجاز حتى حملت فإذا هي سوداء طمطمانية ذات مشافر فقال له‏:‏ ويلك‏!‏ هذه مريم التي ملأت الدنيا بذكرها عليك وعليها لعنة اللّه ‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي إن عمر بن أبي ربيعة يقول‏:‏ فتضاحكن وقد قلن لها حسن في كل عين ماتود بكر بن النطاح أبو وائل الحنفي الشاعر بصري سكن بغداد في زمن الرشيد وكان يعاشر أبا العتاهية وأصحابه وكان أبو هفان يقول‏:‏ أشعر أهل الغزل من المحدثين أربعة أولهم بكر بن النطاح ‏.‏

أخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب أخبرنا علي بن طلحة المقرىء أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران حدثنا محمد بن يحيى النديم حدَّثنا عثمان بن محمد الكندي حدثنا النضر بن حديد قال‏:‏ كنا في مجلس فيه أبو العتاهية والعباس بن الأحنف وبكر بن النطاح ومنصور النميري والعتابي فقالوا لمنصور‏:‏ أنشدنا فأنشد مدائح الرشيد فقال أبو العتاهية لابن الأحنف - أعني العباس -‏:‏ طرفنا بمدحك ‏.‏

فأنشد أبياته‏:‏ ولي غير وجه قد عرفت مكانَه ولكن بلا قلب إلى أين أذهب فقال أبو العتاهية‏:‏ الجُيُوب من هذا الشعر على خطر ولا سيما إن سنح بين حلق ووتر فقال بكر‏:‏ قد حضرني شيء في هذا فأنشد‏:‏ أرانا مَعْشرالشعراءِ قومًا بألسننا تَنعَمَتِ القلوبُ إذا انبعثت قرائحنا أتينا بألفاظ تُشَق لها الجيوبُ فقال العتابي‏:‏ ولاسِيمَا إذا ماهَيَّجَتْها بَنَانٌ قد تجيب وتستَجيب قال النضر‏:‏ فما زلت معهم في سرور ‏.‏

وبلغ إسحاق الموصلي خبرنا فقال‏:‏ اجتماع هؤلاء ظرف الدهر ‏.‏

قال المبرد‏:‏ سمعت الحسن بن رجاء يقول‏:‏ حضرت بكر بن النطاح ومعه جماعة من الشعراء وهم يتناشدون فلما فرغوا من طوالهم أنشدهم‏:‏ ما ضرها لو كتبتْ بالرِّضا فجفّ جَفْنُ العينِ أو أغمَضَا شفاعة مردودة عندَهَا في عاشق تَنْدَمُ لو قد قَضَى يانَفْسُ صبرًا واعلمي أن ما نأمَلُ منها مثل ماقد مَضى قال‏:‏ فابتدروه يقبلون رأسه ‏.‏

ولما مات ابن النطاح رثاه أبو العتاهية فقال‏:‏ مات ابن نطَاح أبو وائل بكرٌ فأمسى الشعر قد بانا بهلول المجنون ‏.‏

كانت له كلمات حسان ولقي الرشيد في سنة ثمان وثمانين وهو يريد الحج فوعظه موعظة بليغة

وقد ذكرناها هناك ‏.‏

وكان بهلول يأوي المقابر ‏.‏

عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود أبو محمد الأودي الكوفي ‏.‏

ولد سنة خمس عشرة ومائة ‏.‏

وقيل‏:‏ سنة عشرين ‏.‏

والأول أصح ‏.‏

سمع الأعمش وأبا إسحاق الشيباني وابن جريج ومالك بن أنس وشعبة وسفيان الثوري ‏.‏

وروى عنه‏:‏ ابن المبارك وأحمد بن حنبل ويحيى وغيرهم ‏.‏

وأقدمه الرشيد إلى بغداد ليوليه قضاء الكوفة فامتنع وعاد إلى الكوفة وأقام بها إلى أن مات في هذه السنة ‏.‏

وكان ثقة عالمًا زاهدًا ورعًا وكان أحمد بن حنبل يقول فيه‏:‏ نسيج وحده ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين النهرواي حدثنا المعافى بن زكريا حدَّثنا ابن مخلد حدَّثنا حماد بن المؤمل الكلبي قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال‏:‏ سألت وكيعًا عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي‏:‏ ما سألني عن هذا أحد قبلك قدمنا على هارون فأقعدنا بين السريرين فكان أول مَنْ دعا به أنا فقال‏:‏ أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا وسمّوك لي فيمن سمّوا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وصالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدك أيها الرجل وامض ‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة ‏.‏

فقال هارون‏:‏ اللهم غفرًا خذ عهدك أيها الرجل وامض ‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين واللّه إن كنت صادقًا إنه لينبغي أن تقبل مني ولئن كنت كاذبًا فما ينبغي أن تولي القضاء كذابًا فقال‏:‏ اخرج ‏.‏

فخرجت ودخل ابن إدريس وكان هارون قد وسم له من ابن إدريس وسم - يعني خشونة جانبه - فدخل فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض حين برك وما سمعناه يسلم إلا سلامًا خفيًا فقال له هارون‏:‏ أتدري لِمَ دعوتك ‏.‏

فقال له‏:‏ لا ‏.‏

قال‏:‏ إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا وإنهم سمّوك لي فيمن سمّوا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدك وامض ‏.‏

فقال له ابن إدريس‏:‏ ليس أصلح للقضاء ‏.‏

فنكت هارون بإصبعه وقال له‏:‏ وددت أني لم أكن رأيتك قال له ابن إدريس‏:‏ وأنا وددت أني لم أكن رأيتك ‏.‏

فخرج ثم دخل حفص بن غياث فقال له كما قال لنا فقبل عهده وخرج ‏.‏

فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف ‏.‏

فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول لكم قد لزمتكم في شخوصكم مؤونة فاستعينوا بهذه في سفركم ‏.‏

قال وكيع‏:‏ فقلت له‏:‏ أقرىء المؤمنين السلام وقل له قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين وأنا عنها مستغن وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليها مني فإن رأى أمير المؤمنين بصرفها إلى من أحب ‏.‏

وأما ابن إدريس فصاح به‏:‏ مر من هنا ‏.‏

وقبلها حفص وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا‏:‏ عافانا الله وإياك سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل ووصلناك من أموالنا فلم تقبل فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء اللهّ ‏.‏

فقال للرسول‏:‏ إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله ‏.‏

ثم مضينا فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة فنزلنا نتوضأ للصلاة ‏.‏

قال وكيع‏:‏ فنظرت إلى شرطي محموم نائم في الشمس عليه سواده فطرحت كسائي عليه وقلت‏:‏ تدفأ إلى أن نتوضأ ‏.‏

فجاء ابن إدريس فاستلبه ثم قال لي‏:‏ رحمته لا رحمك اللّه في الدنيا أحد يرحم مثل ذا ثم التفت إلى حفص فقال له‏:‏ يا حفص قد علمت حين دخلت إلى سوق أسد فخضبت لحيتك ودخلت الحمام أنك ستلي القضاء لا واللهّ لا كلمتك حتى تموت قال‏:‏ فما كلمه حتى مات ‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر أخبرنا محفوظ بن أحمد أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري أخبرنا المعافى بن زكريا حدَّثنا محمد بن القاسم الأنباري قال‏:‏ حدثني أبي حدَّثنا موسى بن عبد الرحمن بن مسروق الكندي حدثنا ابن المنذر - وكان جارًا لعبد الله بن إدريس - قال‏:‏ حج الرشيد ومعه الأمين والمأمون فدخل الكوفة فقال لأبي يوسف‏:‏ قل للمحدثين يأتونا فيحدثونا ‏.‏

فلم يتخلف عنه من شيوخ أهل الكوفة إلا اثنان‏:‏ عبد اللهّ بن إدريس وعيسى بن يونس فركب الأمين والمأمون إلى عبد الله بن إدريس فحدثهما بمائة حديث فقال المأمون لعبد اللّه‏:‏ يا عم أتأذن لي أن أعيدها عليك من حفظي قال‏:‏ افعل ‏.‏

فأعادها كما سمعها وكان ابن إدريس من أهل الحفظ يقول‏:‏ لولا أني أخشى أن ينفلت مني القرآن لدونت العلم ‏.‏

فعجب عبد اللهّ من حفظ المأمون وقال المأمون‏:‏ يا عم إلى جانب مسجدك دار إن أردت اشتريناها ووسعنا بها المسجد ‏.‏

فقال‏:‏ ما لي إلى هذا حاجة قد أجزى من كان قبلي وهو يجزيني ‏.‏

فنظر إلى قرح في ذراع الشيخ فقال‏:‏ إن معنا أطباء وأدوية أتأذن لي أن أجيئك بمن يعالجك قال‏:‏ لا قد ظهر بي مثل هذا وبرأ فأمر له بمال فأبى أن يقبله ‏.‏

وصار إلى عيسى بن يونس فحدثه فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها فظن أنه استقلها فأمر له بعشرين ألفًَا فقال عيسى‏:‏ والله ولا أهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولو ملأت لي هذا المسجد ذهبًا إلى السقف فانصرفا من عنده ‏.‏

وعن حسين بن عمرو المنقري قال‏:‏ لما نزل بابن إدريس الموت بكت ابنته فقال‏:‏ لا تبكي فقد ختمت في هذا البيت أربعة آلاف ختمة توفي ابن إدريس في هذه السنة علي بن ظبيان أبو الحسن العبسي الكوفي ‏.‏

تقلد قضاء الشرقية ثم ولي قضاء القضاة في أيام الرشيد وكان يجلس في المسجد الذي ينسب إلى الخلد فيقضي فيه وحدث عن عبيد اللّه بن عمر العمري وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الملك بن أبي سليمان روى عنه‏:‏ داود بن رشيد وقد ضعفه بعض أصحاب الحديث وقال بعضهم‏:‏ لا بأس به‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا علي بن المحسن أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر حدثنا علي بن محمد بن عبيد عن أحمد بن زهير عن سليمان بن أبي شيخ حدثنا عبيد بن ثابت قال‏:‏ كتبت إلى علي بن ظبيان وهو قاضي بغداد‏:‏ بلغني أنك تجلس على بارية وقد كان مَنْ قبلك من القضاة يجلسون على الوطاء ويتكئون فكتب إلي‏:‏ إني لا أستجيز أن يجلس بين يدي رجلان حران مسلمان على بارية وأنا على وطاء لست أجلس إلا على ما يجلس عليه الخصوم قال طلحة‏:‏ علي بن ظبيان رجل جليل متواضع دين حسن العلم بالفقه من أصحاب أبي حنيفة وكان حسنًا في باب الحكم تقلد قضاء الشرقية ثم تقلد قضاء القضاة ولاه الرشيد وكان يخرجه معه إذا خرج إلى المواضع فتوفي بقرميسين سنة اثنتين وتسعين ومائة ‏.‏

العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة أبو الفضل الشاعر

كان من عرب خُراسان ومنشأة بغداد وكان طريفًا مقبولًا حسن الشعر ‏.‏

عن محمد بن يحيى قال‏:‏ سمعت عبد اللّه بن المعتز يقول‏:‏ لو قيل لي‏:‏ ما أحسن شعر تعرفه لقلت شعر العباس بن الأحنف‏:‏ قد سحب الناس أذيال الظنون بنا وفرق الناس فيها قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظن غيركمُ وصادق ليس يدري أنه صدقا أخبرنا القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الواحد أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني حدثنا محمد بن القاسم الأنباري حدثنا أبي حدَّثنا عبد الله بن أبي سعد حدثنا عبد الله بن الربيع قال‏:‏ قال هارون الرشيد في الليل بيتًا وأراد أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه فقال‏:‏ علي بالعباس بن الأحنف فلما طُرِق ذعر وفزع أهله فلما وقف بين يدي الرشيد قال‏:‏ وجّهت إليك لبيت قلته ورمت أن أشفعه بمثله فامتنع القول علي ‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين دعني حتى ترجع إلي نفسي فإني تركت عيالي على حال من القلق عظيمة ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف ‏.‏

فانتظر هنية ثم أنشده‏:‏ جنان قد رأيناها ولم نر مثلها بشرا فقال العباس‏:‏ يزيدك وجهها حسنًا إذا ما زدته نظرا فقال له الرشيد‏:‏ زدني ‏.‏

فقال العباس‏:‏ إذا ما الليل مال علي ك بالظلماء واعتكرا ودج فلم تر قمرًا فأبرزها ترى القمرا فقال له الرشيد‏:‏ قد ذعرناك وأفزعنا عيالك وأقل الواجب أن نعطيك دينك فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه ‏.‏

أخبرنا القزاز أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا عبيد اللّه بن عبد الرحمن الزهري حدَّثنا محمد بن القاسم الشطوي حدثنا أحمد بن عبيد قال‏:‏ سمعت الأصمعي يقول‏:‏ بينا أنا قاعد يومًا في مجلس بالبصرة فإذا أنا بغلام أحسن الناس وجهًا وثوبًا واقف على رأسي فقال‏:‏ إن مولاي يريد أن يوصي إليك فأخذ بيدي حتى أخرجني إلى الصحراء فإذا بالعباس بن الأحنف ملقى على فراشه وإذا هو يجود بنفسه وهو يقول‏:‏ يا بعيد الدار عن وطنه مفردًا يبكي على شجنه كلما جد النجيب به زادت الأسقام في بدنه ثم أغمىِ عليه فانتبه بصوت طائر على شجرة وهو يقول‏:‏ ولقد زاد الفؤاد شجى هاتف يبكي على فننه شاقه ماشاقني فبكى كلنا يبكي على سكنه ثم أغمي عليه وظنناها مثل الأولى فحركته فإذا هو ميت ‏.‏

توفي العباس بن الأحنف في قول إبراهيم بن العباس الصولىِ في هذه السنة وقال عمر بن شبة‏:‏ توفي سنة ثمان وثمانين وقال غيره‏:‏ بقي بعد الرشيد ‏.‏

عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور ‏.‏

كان من وجوه بني هاشم وسراتهم وولي إمارة البصرة وخرج من بغداد يقصد الرشيد وهو إذ ذاك بخراسان فأدركه أجله بالدسكرة من طريق حلوان فتوفي في هذه السنة ‏.‏

الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي أخو جعفر وُلد بالمدينة سنة سبع وأربعين ومائة وأمه زبيدة بنت منين بربرية فأرضعته الخيزُران وأرضعت زبيدة أمه الرشيد أيامًا فصارا رضيعين وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يمدحه‏:‏ كفى لك فضلًا أن أفضل حرة غذتك بثدي والخليفة واحدِ لقد زِنْتَ يحيى في المشاهد كلها كما زان يحيى خالدًا في المشاهد قال مؤلف الكتاب رحمه اللّه‏:‏ كان الفضل أجود من أخيه جعفر وأندى راحة إلا أنه كان فيه كبرٌ شديد وكان جعفر أطلق وجهًا وأظهر بشرًا وكان الناس يؤثرون لقاء جعفر على لقاء الفضل ‏.‏

وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعاتبه أخوه في هذا فقال‏:‏ إن هذا صحبني وأنا لا أملك شيئًا واجتهد في نصحي وقد قال الشاعر‏:‏ إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان عاونهم في المنزل الخشن ووهب لبعض الأدباء عشرة آلاف دينار فبكى الأديب فقال‏:‏ أتبكي استقلالًا لها قال‏:‏ لا والله ولكن أسفًا كيف تواري الأرض مثلك وولى الرشيد الفضل أعمالًا جليلة ‏.‏

بخُراسان وغيرها فلما غضب على البرامكة وقتل جعفر مات يحيى سنة تسعين ومات الفضل سنة اثنتين وتسعين قبل موت الرشيد بشهور وقيل‏:‏ سنة ثلاث ‏.‏

أخبرنا القزاز أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا أبو القاسم الأزهري أخبرنا أحمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة حدثنا محمد بن الحسين بن هشام حدَّثنا علي بن الجهم عن أبيه قال‏:‏ لما أصبحت ذات يوم وأنا في غاية الضيقة ما أهتدي إلى دينار ولا درهم ولا أملك إلا دابة أعجف وخادمًا خلعًا فطلبت الخادم فلم أجده ثم جاء فقلت‏:‏ أين كنت فقال‏:‏ كنت في احتيال شيء لك وعلف لدابتك فوالله ما قدرت عليه فقلت‏:‏ اسرج لي دابتي فأسرجه فركبت فلما صرت في سوق يحيى إذا أنا بموكب عظيم وإذا الفضل بن يحيى فلما بصرني قال‏:‏ سر فسرنا قليلًا وحجز بيني وبينه غلام يحمل طبقًا على باب يصيح بجارية فوقف الفضل طويلًا ثم قال‏:‏ سر ثم قال‏:‏ أتدري ما سبب وقفتي ‏.‏

قلت‏:‏ إن رأيت أن تعلمني ‏.‏

قال‏:‏ كانت لأختي جارية وكنت أحبها حبًا شديدًا واستحي من أختي أن أطلبها منها ففطنت أختي لذلك فلما كان في هذا اليوم لبستها وزينتها وبعثت لها إلي فما كان في عمري يوم أطيب من يومي هذا فلما كان في هذا الوقت جاءني رسول أمير المؤمنين فأزعجني وقطع علي لذتي فلما صرت إلى هذا المكان دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية فارتدت لندائه ووقفت فقلت‏:‏ أصابك ما أصاب أخا بني عامر حيث يقول‏:‏ وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيَّج أحزان الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرًا كان في صدري فقال‏:‏ اكتب لي هذين البيتين ‏.‏

فعدلت لأطلب ورقة أكتب له هذين البيتين فيها فلم أجد فرهنت خاتمي عند بقال وأخذت ورقة وكتبتهما فيها وأدركته بها فقال لي‏:‏ ارجع إلى منزلك فرجعت ونزلت فقال لي الخادم‏:‏ اعطني خاتمك أرهنه ‏.‏

فقلت‏:‏ رهنته ‏.‏

فما أمسيت حتى بعث إلي بثلاثين ألف درهم جائزة وعشرة آلاف درهم سلفًا لسنة من رزق أجراه لي ‏.‏

أخبرنا ابن ناصر الحافظ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار أخبرنا محمد بن عبد الواحد بن محمد أخبرنا جعفر أخبرنا أبو عمرو بن حيوية أخبرنا أبو عبد اللّه الحكيمي حدَّثنا أبو الفضل ميمون بن هارون حدَّثني عبد اللّه بن الحسين العلوي قال‏:‏ أتيت الفضل بن يحيى فأجلسني معه وأكرمني فكلمته في دَيْني ليكلّم أمير المؤمنين في قضائه عني ‏.‏

قال‏:‏ فكم دينك ‏.‏

قلت‏:‏ ثلثمائة ألف درهم ‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏.‏

فخرجت من عنده وأنا مغمور لضعف رده فمررت ببعض إخواني مستريحًا إليه ثم صرت إلى منزلي فوجدت المال قد سبقني ‏.‏

أصله من البصرة وله إخوة وأقارب كلهم شعراء وقد اختلطت أشعارهم واختلفت الروايات في أنسابهم إلا أن محمد بن أمية أشهرهم ذكرًا وأكثرهم شعرًا والباقون أشعارهم نزرة جدًا ‏.‏

ومحمد بن أمية شاعر منهم اختلط شعره بشعر عمه فلم يفرق أكثر الناس بينهما ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا علي بن المحسن القاضي قال‏:‏ حدَّثنا أبي حدثنا أبو بكر الصولي حدثنا عون بن محمد الكندي قال‏:‏ قال لي محمد بن أبي أمية الكاتب‏:‏ كنت أنا وأخي نكتب للعباس بن الفضل بن الربيع فجاءه أبو العتاهية مسلمًا فأمره بالمقام عنده فقال‏:‏ على شريطة ينشدني كاتبك هذا من شعره - وأومأ إلي - فقال‏:‏ ذلك لك وتغدينا فقال‏:‏ الشرط ‏.‏

فأمرني أن أنشده فحضرت وقلت‏:‏ ما أجسر على ذلك وما ذاك قدرتي ‏.‏

فقال‏:‏ إن أنشدني وإلا قمت ‏.‏

فأنشدته‏:‏ رب قول منك لا أنساه لي واجب الشكر وإن لم يفعل أقطع الدهر بظنٍ حَسَن وأجَلي غمرةً ماتنجلي وأرى الأيام لا تدني الذي أرتجي منك وتدني أجلي وإذا أمَّلت يومًا صالحًا عرض المقدور لي في أملي فبكى أبو العتاهية أشد بكاء ثم قال لي‏:‏ زدني ‏.‏

فقال لي‏:‏ زده ‏.‏

فأنشدته‏:‏ ومن يعرض عن ذكري كأني لست أعنيه لقد أسرفت في الذل كما أسرفت في التيه أما تعرف لي إحسا ن يوم فتجازيه منصور بن سلمة بن الزبرقان ‏.‏

وقيل‏:‏ منصور بن الزبرقان بن سلمة أبو الفضل النميري الشاعر ‏.‏

من أهل الجزيرة قدم بغداد ومدح الرشيد ‏.‏

وجد منصور يقال له‏:‏ مطعم الكبش الرخم لأنه أطعم ناسًا نزلوا به ونحر لهم ثم رفع رأسه فإذا هو برخم تحملق حول أضيافه فأمر أن يذبح لهن كبش ويرمي به بين أيديهن ففعل ذلك فنزلن عليه فمزَّقنَهُ فسمّي‏:‏ مطعم الكبش الرخم ‏.‏

وفي ذلك يقول أبو بعجة النميري يمدح رجلًا منهم‏:‏ أبوك زعيم بني قاسط وخالك ذو الكبش يقري الرَّخم وكان منصور شاعرًا من شعراء الدولة العباسيّة وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وراويته وعنه أخذ ووصفه العتابي للفضل بن يحيى حتى استصحبه ثم وصله بالرشيد ثم جرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة فتهاجيا ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا الخطيب أخبرنا الحسن بن الحسن الثعالبي أخبرنا أبو الفرج الأصفهاني قال‏:‏ حدَّثني عمي عن جدي قال‏:‏ قال النميري‏:‏ كنت واقفًا على جسر بغداد أنا وعبيد اللّه بن هشام بن عمرو التغلبي وقد وخطني الشيب يومئذ وعبيد اللّه شاب حدث السن فإذا أنا بقصرية ظريفة وقد وقفت فجعلت أنظر إليها وهي تنظر إلى عبيد اللّه بن هشام ثم انصرفت فقلت فيها‏:‏ لما رأيت سوام الشيب منتشرًا في لمتي وعبيد اللّه لم يشب سللت سهمين من عينيك فانتصلا على شبيبة ذي الأذيال والطرب كذا الغواني مراميهن قاصدة إلى الفروع معداة عن الخشب شبَّه الشباب بالفرع الأخضر والشيخ بالخشبة التي قد يبست أو ساق الشجرة الذي لا ورق له ثم أتم القصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد فأعطاه عشرة آلاف درهم ‏.‏

يوسف بن يعقوب بن إبراهيم القاضي ‏.‏

سمع الحديث من يونس بن إسحاق السبيعي والسري بن يحيى ونظر في الرأي وفقه وولي القضاء بالجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه وصلى بالناس الجمعة في مدينة المنصور بأمر الرشيد ولم يزل على القضاء ببغداد إلى أن توفي في رجب من هذه السنة ‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ خروج الرشيد إلى ناحية خُراسان‏:‏ أخبرنا محمد بن ناصر أخبرنا أبو المعالي أخبرنا أحمد بن محمد البخاري أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه أخبرنا أبو جعفر بن برية أخبرنا أبو بكر بن محمد بن خلف بن المرزبان قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن محمد بن علي التيمي عن أحمد بن صباح الطبري مولى عيسى بن جعفر الهاشمي قال‏:‏ حدَّثني أبي قال‏:‏ شيعت الرشيد حين مضى إلى خُراسان فقال لي وهو يريد أن يَأرِما‏:‏ يا صباح ما أحسبك تراني بعد هذا أبدًا ‏.‏

فقلت‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تقول هذا والله إني لأرجو أن يبقيك الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مائة سنة ‏.‏

فتبسم وقال‏:‏ يا صباح أنا والله ميت بعد قريب ‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك والله إني أرى دمًا ظاهرًا ولونًا ناصعًا وشبابًا زائدًا ومؤونة قوية وروحًا طيبة فعمرك الله أكثر مما عمَر من ملك الأرض وفتح لك ما فتح على ذي القرنين ولا أرى رعيتك فيك ‏.‏

قال‏:‏ فالتفت إلى جميعة كانت من ورائه فقال‏:‏ تنحوا عني ‏.‏

ثم قال‏:‏ مل بنا نحو تلك الشجرة حتى أسرّ إليك سرًا ‏.‏

قال‏:‏ فسرت معه منحرفًا عن الجادة نحوًا من ثلثمائة ذراع فكمن في ظل حائط ثم قال‏:‏ أمانة الله في عنقك أن لا تخبر بما ألقي إليك أحدًا ‏.‏

فقلت‏:‏ يا سيدي هذه مخاطبة الأخ أخاه وأنا عبد يخاطبني مولاي بمثل هذا ‏.‏

فقال‏:‏ واللّه لتقولن إني لا أقولها لأحد وإنها أمانة حتى أؤديها إليك عند الله ‏.‏

قال‏:‏ فعلت فكشف عن بطنه فإذا حرير قد عصب به بطنه وظهره ثم حول إلى قفاه فأخذ ثيابه عن ظهره فإذا قروح ونقابات قد واراها بخرق وأدوية وقال‏:‏ منذ كم ترى هذا بي قلت‏:‏ لا أدري ‏.‏

قال‏:‏ ظهرت في أول سنة تسع وثمانين والله ما أطلع عليها أحد من الناس إلا بختيشوع ورجاء ومسرور فأما ابن بختيشوع فإنه بلغني أنه أخبر به المأمون ووالله لئن بقيت لابن الفاعلة لأتركنه يهيم بطلب الخبز حتى يشغله ذلك عن إذاعة السر وأما مسرور فأخبر الأمين بعلتي وما منهم أحد إلا له علي حَيْنٌ فأنى تصفوا لي حياة وأعز ولدي يحصي أنفاسي ويستحب علتي ولقد بلغ من تبرمهم بي وبحياتي أني إذا أردت الركوب جاءوني ببزدون قطوف وليس إلا ليزيد في علتي ويفسد علي جوارحي فأكره أن أظهر هذا لهم فيستوحشوا مني ومتى استوحشوا أظهروا من العداوة ما كان باطنًا والعامة لهم أرجأ والخاصة إليهم أميل وأنا كالخائف بينهم أصبح فلا أطمع في المساء وأمسي ولا أطمع في الصباح ‏.‏

فقلت يا سيدي ما أحسن الجواب عن هذا ولكن أقول‏:‏ من أرادك بكيد فأراه الله ذلك الكيد في نفسه وأراه فيك ما يسوءه وأطال بقاءك وكبت أعداءك حيث كانوا فقال‏:‏ سمع اللّه دعاءك انصرف فإن أشغالك ببغداد كثيرة فودعته وكان آخر العهد به ‏.‏

وروى أبو بكر الصولي قال‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال‏:‏ حدثني مسرور قال‏:‏ دخلت على الرشيد وهو يبكي عند خروجه إلى خراسان آخر خرجة وفي يده قرطاس يقرأه فقال‏:‏ يا مسرور كأني واللّه عنيت بما في هذا القرطاس ثم رمى به مزيدة فأخذته ووثب فدخل فإذا فيه شعر لأبي العتاهية‏:‏ هل أنت معتبر بمن خربت منه غداة قضى دساكره وبمن أذل الدهر مصرعه فتبرأت منه عساكره وبمن خلت منه أسرته وبمن خلت منه منابره أين الملوك وأين جندهم صاروا مصيرًا أنت صائره يا مؤثر الدنيا بلذته والمستعد لمن يفاخره نل مابدا لك أن تنال من الدن يا فإن الموت آخر قال‏:‏ فمات في سفرته تلك ‏.‏

قال علماء السير‏:‏ ودخل الرشيد جرجان فوافته خرائن علي بن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير ثم رحل من جرجان وهو مريض إلى طوس فأقام بها إلى أن تُوفِّيَ واتهم هرثمة فوجّه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو ومعه عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد في آخرين ‏.‏

وكان بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة ففتح فيها بخارى وأسر أخا رافع بشير بن الليث فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس فدخل به عليه وهو ينظر في المرآة ويقول‏:‏ ‏{‏إنا للّه وإنا إليه راجعون‏}‏‏.‏

فنظر إليه فقال‏:‏ يا ابن اللّخناء إني لأرجو ألا يفوتني رافع كما لم تَفُتْنِي أنت ‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أظفرك اللّه فافْعَل ما يحبّ الله ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذا رأى أنك قد مننت عليَّ‏!‏ فغضب وقال‏:‏ واللّه لو لم يبق من أجَلي إلاَ أن أحرك شفتيً بكلمة لقلت‏:‏ اقتلوه ‏.‏

ثم دعا بقصاب فقال‏:‏ لا تشحذ مُداك دعها على حالها وفصّل هذا الفاسق ابن الفاسق ‏.‏

فجعله أشلاء ثم أغمىِ عليه وتفرق من حضره ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ توفي الرشيد وبويع الأمين ‏.‏

 باب ذكر خلافة الأمين

هو محمد بن هارون ويكنى‏:‏ أبا موسى ويقال‏:‏ أبا عبد الله ‏.‏

ولد برصافة بغداد سنة إحدى وكان أبيض سبطًا أنزع صغير العِينين أقنى جميلًا طويلًا سمينًا عظيم الكراديس بعيد ما بين المنكبين سمع الحديث الكثير وأسند الحديث ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني الحسن بن أبي طالب حدَّثنا أحمد بن محمد بن عمران أخبرنا محمد بن يحيى حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال‏:‏ رأيت عند الحسين بن الضحاك جماعة من بني هاشم فسألوه عن الأمين وأدبه فوصف أدبًا كثيرًا وقال‏:‏ سمعته يقول‏:‏ حدثني أبي عن أبيه عن المنصور عن أبيه عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ من مات محرمًا حشر ملبيا ‏"‏

 ذكر بيعته

توفي الرشيد بطوس فبويع للأمين صبيحة الليلة التي مات فيها الرشيد تولى ذلك صالح بن الرشيد وذلك يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة وكتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد من طوس إلى سلام مولاه وخليفته على البريد ليعلمه بوفاة الرشيد فدخل على الأمين فعزاه وهنأه بالخلافة ‏.‏

وكان الأمين نازلًا ببغداد في الخلد فتحوًل إلى قصر المنصور بالمدينة وأمر الناس بالحضور فحضروا فصعد المنبر فحمد اللهّ وأثنى عليه ونعى الرشيد إلى الناس وعزى نفسه والناس ووعدهم الخير وبسط الأمان للأسود والأبيض فبايعه جلة أهل بيته وخاصة مواليه وقواده ثم دخل ووكل ببيعته من بقي منهم سليمان بن المنصور وأمر للجند بمدينة السلام برزق سنتين واتخذ الفضل بن الربيع وزيرًا وابنه العباس بن الفضل حاجبًا وجعل إسماعيل بن صبيح كاتبًا وجعله على ديوان الرسائل والتوقيعات والخاتم وجعل عيسى بن علي بن ماهان على الشرطة وقيل‏:‏ عبد اللّه بن حازم ‏.‏

أخبرنا ابن ناصر أنبأنا أحمد بن خلف حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم حدثنا أحمد بن كامل قال‏:‏ حدثني عبد اللهّ بن إبراهيم النحوي حدَّثنا أبو هفان حدثنا أحمد بن يوسف قال‏:‏ دخل أبو نواس على محمد الأمين فهنأه بالخلافة وعزاه بالرشيد في بيت فأنشأ يقول‏:‏ جرت جوار بالسعد والنحس فنحن في وحشة وفي أنس العين تبكي والسن ضاحكة فنحن في مأتم وفي عرس يضحكها القائم الأمين ويب كيها وفاة الرشيد بالأمس بدران‏:‏ بدر أضحى ببغداد في الخلد وبحر بطوس في الرمس ثم قدم القادم بالبردة والقضيب والخاتم فوصل لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة وقدم عليه حسين الخادم بالخزائن التي كانت مع الرشيد وقدمت زبيدة من الرافقة في آخر رجب بخزائن الرشيد فتلقاها محمد بالأنبار وكان الأمين قد بعث مَنْ يأتيه بأخبار الرشيد في زمن علته كل يوم وأرسل بدر بن المعتمر فكتب معه كتبًا وجعلها في قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر وقال‏:‏ لا يظهرن أميرُ المؤمنين ولا أحد من في عسكره على شيء من أمرك وما توجهت فيه ولا على مامعك ولو قُتِلتَ حتى يموت أميرُ المؤمنين فإذا مات فادفعْ إلى كل إنسان منهم كتابه فلما قدم بكر طوس بلغ هارون قدومه فدعا به فقال‏:‏ ما أقدمك قال‏:‏ بعثني محمد لأعلم خبرك وآتيه به ‏.‏

قال‏:‏ فهل معك كتاب ‏.‏

قال‏:‏ لا فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا شيئًا فهدده بالضرب فلم يقر بشيء فأمر به فحُبس وقُيّد فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرره فإن أقرّ وإلا ضُرب عنقه ‏.‏

وصار إلى هارون فغشي عليه غشية ظنوا أنها هي وارتفعت الصيحة فأرسل بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع يسأله أن لا يعجلوا في أمره ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إليها وكان بكر محبوسًا عند حسين الخادم فلما توفي الرشيد دعاه الفضل بن الربيع فسأله عما عنده فأنكر أن يكون عنده شيء وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيًا حتى صح عنده موت هارون فأخبره أن عنده كتبًا من أمير المؤمنين الأمين وأنه لا يجوز له إخراجها وهو على حاله في قيوده فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه الفضل فأتاهم بالكتب التي عنده فكان في تلك الكتب‏:‏ كتاب من محمد إلى حسين الخادم بخطه يأمره بتخلية بكر بن المعتمر وإطلاقه فدفعه إليه ‏.‏

وكتاب إلى المأمون فاحتبس كتاب المأمون لغيبته بمصر وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد فأتاهم فدفعوا إليه كتاب الأمين وكان في الكتاب إلى المأمون‏:‏ إذا وَرَد عليك كتابُ أخيك - أعافه الله من فقدك - فعز نفسك بماعزاك الله به واعلم أنً الله قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين وأجزل الحظين فقم في أمرك قيام ذي الحزْم والناظر لأخيه وسلطانه وعامة المسلمين وإياك أنْ يغلب عليك الجزَع فإنه يُحبط الأجْر ويُعقب الوِزر وصلوات الله على أمير المؤمنين حيًّا وميّتًا وإنا للهّ وإنا إليه راجعون ثم إنا لله وإنا إليه راجعون وخُذْ البَيْعة على من قِبَلك من قوّادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين على الشرط التي جعلها لك أمير المؤمنين صلوات الله عليه فإنك مقلّد من ذلك ما قلدك الله وخليفته فاعلِمْ مَنْ قِبَلك رأيي في صلاحِهم وسد خَلّتِهم والتوسِعة عليهم فمن أنكرته عند بيعته أو اتهمته على طاعته فابعث إليَّ برأسه وإياك وإقالته فإنَّ النار أولى به ‏.‏

واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين وأعلمهم أنّ الله لم يرضَ الدنيا ثوابًا له حتى قبضه إلى رحمته وجنته مغبوطًا محمودًا ‏.‏

وَمُرْهم أن يأخذوا البيعَة على أجنادهم وخواصهم وعوامّهم علىِ مثل ما أمرتُك به وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم والقوٌة على عدوّهم وأعلمهم أني متفقد أحوالهم ولامٌّ شعثهم وموسع عليهم واعمل فيما تأمر به لمن حَضَرك أو نأى عنك من أجنادك على حسب ما ترى وتشاهد فإن أخاك يعرف حسنَ اختيارك وصحّة رأيك وبُعد نظرك وهو يستحفظك الله ويسأله أن يشدّ بك عضده ويجمع بك أمره إنه لطيف لما يشاء ‏.‏

وكتب بكر بن المعتمر بين يدي بإملائي في شوال سنة اثنتين وتسعين ومائة ‏.‏

وكتب إلى صالح أخيه‏:‏ إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سَبق من علم الله ونفذ من قضائه في خُلفائه وأوليائه وجرتْ به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كل شَيْء هَالِك إلا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإلَيْهِ تُرْجَعون‏}‏ فاحمد الله على ما صار إليه أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقة أوليائه وصلى الله على أمير المؤمنين حيًا وميتًا وإنا لله وإنا إليه راجعون وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه صلى الله عليه وسلم فقد كان لهم عصمًة وكهفًا وبهم رؤوفًا رحيمًا فشمّر في أمرك وإياك أن تلقي بيديك فإنَ أخاك قد اختارك لما استنهضك له وهو متفقد مواقع فعلك فحقق ظنه ونسأل الله التوفيق ‏.‏

وخذ البيعة على من قِبَلك من ولد أمير المؤمنين فإن السعادة واليُمْن في الأخذ بعهده والمضيّ على منهاجه ‏.‏

وأعْلِم مَنْ قِبَلك من الخاصّة والعامة رأي في استصلاحهم وردّ مظالمهم وتفقد حالاتهم وإدرار أرزاقهم وأعطياتهم فإن شغَب شاغب أو نعَرَ ناعر فاسطُ به سطوة تجعله نَكالًا واضمُم إلى الفضْل ابن الربيع ولَد أمير المؤمنين وحرمه وأهله وَمُرْه بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته وصيِّر إلى عبد اللّه بن مالك أمر العسكر وأحداثه فإنه ثقة على ما يلي مقبول عند العامة ومُره بالجِد والتيقظ وتجديد الحرم وتقديم الحزم في أمره كله وأقِرّ حاتم بن هرثمة على ما هو عليه ومُره بحراسة ما يحيط به من قصور أمير المؤمنين ومُرْ الخدم بإحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم مواضع الخَلَل من عسكرك والسلام ‏.‏

ولما بلغ المأمون الخبر نعى الرشيد على المنبر وشقّ ثوبه ونزل وأمر للناس بمال وبايع لمحمد ولنفسه وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرًا ‏.‏

ولما قرأ الذين وردت عليهم كتبُ محمد بطُوس من القواد والجند وأولاد هارون تشاوروا في اللحاق بمحمد فقال الفضل بن الربيع‏:‏ لا أدع ملكًا حاضرًا لآخر ما ندري ما يكون من أمرِه ‏.‏

وأمرَ الناس بالرحيل ففعلوا ذلك محبةً منهم للحوق بأهليهم ومنازلهم ببغداد وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمَرْو فجمع مَنْ معه من قواد أبيه منهم‏:‏ عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة وذو الرياستين وهو عنده من أعظم الناس قدرًا وأخصهم به فأخبرهم وشاورهم فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفيْ فارس جَريدة فيردهم فدخل عليه ذو الرياستين فقال‏:‏ إن فعلت ما أشاروا عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد ولكن الرأي أن تكتب كتابًا وتوجه إليهم رسولًا فتذكّرهم البيعة وتسألهم الوفاء وتحذرهم الحنث وما يلزمهم في ذلك في الدين والدنيا فتستبرىء ما عند القوم ‏.‏

فكتب كتابًا ووجهه مع سهل بن صاعد ونوفل الخادم فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل

فقال الفضل بن الربيع‏:‏ إنما أنا رجل واحد منهم ‏.‏

وشد على سهل عبد الرحمن ابن جبلة بالرمح وقال‏:‏ قل لصاحبك‏:‏ والله لو كنت حاضرًا لوضعت الرمح في فيك هذا جوابي ‏.‏

ونال من المأمون فرجعا بالخبر ‏.‏

فقيل للمأمون‏:‏ أعداء قد استرحتَ أمنهم فابعث إلى الفقهاء فادعهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة ففعل وحط عن خراسان ربع الخراج وردّ المظالم وأقام على ولايته وكاتب الأمين بالتعظيم منهم وأهدى له هدايا كثيرة من فنون الطرف ‏.‏

وأما الأمين فإنه تشاغل باللهو واللعب وبنى ميدانًا حول قصر المنصور للصوالجة وعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة‏:‏ الأسد والفيل والعقاب والفرس والحية ‏.‏

وأمر لبعض من أنشده بثلثمائة ألف دينار وأوقر لشاعر أنشده ثلاثة أبغل دراهم ‏.‏

قال الصولي‏:‏ حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال‏:‏ لما ولي الأمين الخلافة استبطأ الناس جلوسه وقالوا‏:‏ تشاغل باللهو فجلس وأمضى الأمور وقال‏:‏ أتراني لا أعرف الإصدار والإيراد ولكن شرب كأس وسم أس والاستلقاء من غير نعاس أحب إليَّ من مداراة الناس ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ دخل هرثمة حائط سَمَرْقند ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة وراسل رافع الترك فوافوْه فصار هرثمة هو ورافع والترك ثم انصرف هرثمة إلى الترك وضعف رافع ‏.‏

وفيها‏:‏ قُتل نِقفْورملك الروم في حرب بُرْحان وكان ملكه سبع سنين وملك بعده ابنه استبراق - وكان مجروحًا - شهرين ومات وملك ميخائيل خَتَنه على أخته وأقر الأمين أخاه القاسم على ولايته التي ولاه الرشيد من عمل الجزيرة وقِنَّسرين والثغور ثم صرفه عن الجزيرة في هذه السنة واستعمل عليها خزيمة بن خازم ‏.‏

وفي ذي القعدة‏:‏ توفي إسماعيل بن علية وكان على المظالم فولى الأمين مكانه محمد بن عبد اللّه الأنصاري على المظالم والقضاء ببغداد ‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس داود بن عيسى بن موسى وكان والي مكة ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم أبو بشر الأسمي مولاهم يعرف بابن علية من أهل البصرة وأصله كوفي سمع من أبي الساج الضبعي حديثًا واحدًا وروى الكثير‏:‏ عن عبد العزيز بن صهيب وأيوب السجستاني وابن عون وسليمان التيمي وحميد الطويل وغيرهم وحدّث عنه‏:‏ ابن جريح وشعبة وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد ويحيى وعلي وغيرهم وكان حافظًا ثقة مأمونًا ورعًا تقيًا وكان يقرأ في الليل ثلث القرآن ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي حدثنا الجوهري حدثنا محمد بن العباس أخبرنا أحمد بن معروف الخشاب حدثنا الحسين بن فهم حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ إسماعيل بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم مولى عبد الرحمن بن قطبة الأسدي - أسد خزيمة - وكان إبراهيم تاجرًا من أهل الكوفة وكان يقدم البصرة بتجارته فتزوج علية بنت حسان مولاة لبني شيبان وكانت امرأة نبيلة عاقلة لها دار بالعوقه تعرف بها وكان صالح المري وغيره من وجوه البصرة وفقهائها يدخلون فتحادثهم وتسائلهم فولدت لإبراهيم إسماعيل سنة عشر ومائة فنُسب إليها وكان ابن إبراهيم ثقة ثبتًا في الحديث حجة وقد ولي صدقات البصرة وولي ببغداد المظالم في آخر خلافة هارون ‏.‏قال مؤلف الكتاب‏:‏ وقد زعم علي بن حجر أن علية جدته لأمه وكان إسماعيل يقول‏:‏ مَنْ قال ابن علية فقد اغتابني إلا أن هذا شاع فعرف وقال أحمد بن حنبل‏:‏ فاتني مالك فأخلف الله علي سفيان بن عيينة وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله علي إسماعيل بن علية ‏.‏

وقال شعبة‏:‏ ابن علية سيد المحدثين ‏.‏

أنبأنا زاهر بن طاهر حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال‏:‏ سمعت أبا الفضل محمد بن إبراهيم يقول‏:‏ حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا عمرو بن زائدة قال‏:‏ صحبت ابن علية ثلاث عشرة سنة ما رأيته تبسم فيه ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت أخبرنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي الواسطي أخبرنا أبو الفوارس إبراهيم بن أحمد بن محمد الفارسي حدَّثنا أبو الحسين يحيى بن محمد حدثنا مسبح بن حاتم قال‏:‏ قال عبد الله بن محمد بن جعفر بن عائشة حدثنا حماد بن سلمة وحماد بن زيد‏:‏ أن عبد الله بن المبارك كان يتجر في البز وكان يقول‏:‏ لولا خمسة ما تجرت ‏.‏

فقيل له‏:‏ يا أبا محمد مَنْ الخمسة فقال‏:‏ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ومحمد بن السماك وابن علية وكان يخرج إلى خُراسان فيتجر فما ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج والباقي يصل به إخوانه الخمسة ‏.‏

قال‏:‏ فقدم سنة فقيل له‏:‏ قد ولي ابن علية القضاء فلم يأته ولم يصله بالصرة التي كان يصله بها في كل سنة فبلغ ابن علية أن ابن المبارك قد قدم فركب إليه فلم يرفع به عبد اللّه رأسًا ولم يكلمه فانصرف فلما كان من الغد كتب إليه رقعة فيها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏.‏

أسعدك الله بطاعته وتولاك بحفظه وحاطك بحياطته قد كنت منتظرًا لبرك وصلتك‏:‏ أتبرك بها وجثتك أمس فلم تكلمني ورأيتك واجدًا علي فأي شيء رأيت مني حتى أعتذر إليك منه فلما وردت الرقعة على عبد اللّه دعا بالدواة والقرطاس وقالَ‏:‏ يأبى هذا الرجل إلا أن نشق له العصا ثم كتب إليه‏:‏ احتلتَ للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين فصرت مجنونًا بها بعدما كنت دواءً للمجانين أين رواياتك في سردها عن ابن عون وابن سيرين أين رواياتك والقول في إتيان أبواب السلاطين إن قلت أكرهت فذا باطل زل حمارُ العلم في الطين فلما وقف ابن علية على الأبيات قام من مجلس القضاء فوطىء بساط هارون وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين الله الله ارحم شيبتي فإني لا أصبر للخطأ ‏.‏

فقال له هارون‏:‏ لعل هذا المجنون قد أغرى بقلبك ‏.‏

فقال له‏:‏ اللّه اللّه أنقذك اللّه فأعفاه من القضاء فلما اتصل بعبد الله بن المبارك ذلك وجّه إليه بالصرة توفي ابن علية في ذي القعدة من هذه السنة ودفن في مقابر عبد اللّه بن مالك ‏.‏

محمد بن جعفر أبو عبد اللّه البصري يلقب‏:‏ غندر وهو مولى لهذيل بصري صاحب سعيد بن أبي عروبة جالس شعبة نحوًا من عشرين سنة وسمع من جماعة غيرهما وكان إمامًا ثقة أخرج عنه في الصحيحين وكان فيه سلامة صدر ‏.‏

أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي أخبرنا سعد اللّه بن علي بن أيوب أخبرنا عبد الصمد بن علي بن المأمون أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن المأمون حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال‏:‏ حدثني محمد بن المرزبان قال‏:‏ حدثني أبو محمد المروزي حدثنا عبد الله بن بشير عن سليمان بن أيوب صاحب البصري قال‏:‏ قيل لغندور إن الناس يعظمون أمر السلامة التي فيك قال‏:‏ يكذبون قال‏:‏ قلت‏:‏ فحدثني منها بشيء صحيح ‏.‏

قال‏:‏ صمت يومًا فأكلت ثلاث مرات ناسيًا ثم ذكرت أني صائم ثم نسيت فثنيت ثم ثلثت فأتممت صومي قال ابن المرزبان‏:‏ وحدثنا عباس بن محمد عن يحيى بن معين قال‏:‏ اشترى غندور يومًا سمكًا وقال لأهله‏:‏ اصلحوه ونام فأكل عياله السمك ولطّخوا يده فلما انتبه قال‏:‏ قدموا السمك قالوا‏:‏ قد أكلت ‏.‏

قال‏:‏ لا ‏.‏

قالوا‏:‏ فشم يدك ففعل فقال‏:‏ صدقتم ولكن ما شبعت قال البخاري في تاريخه‏:‏ مات في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومائة وذكر ابن سعد في الطبقات أنه مات بالبصرة سنة أربع وتسعين ‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ وقد اتفق في أسماء المحلفين أسماء جماعة‏:‏ محمد بن جعفر فلقبوا‏:‏ غندور تشبيهًا بهذا الرجل فمنهم‏:‏ محمد بن جعفر بن دران بن سليمان أبو الطيب توفي سنة سبع وخمسين وثلثمائة وسيأتي ذكره في السنين ومنهم‏:‏ محمد بن جعفر أبو بكر القاضي مولى فاتن المقتدري روى عن ميسرة بن عبد اللّه الخادم ‏.‏

ومحمد بن جعفر حدّث عن الحسن بن علي العمري روى عن أحمد بن الفرج بن حجاج كل هؤلاء يلقب غندر واسمه‏:‏ محمد بن جعفر ‏.‏

مروان بن معاوية بن الحارث بن عثمان بن أسماء بن خارجة بن عيينة بن حصن الفزاري ‏.‏

كوفي الأصل سمع إسماعيل بن خالد وعاصمًا الأحول وحميد الطويل والأعمش ‏.‏

وقال‏:‏ أتيت الأعمش فقال لي‏:‏ قد قسم جدك أسماء قسمًا فنسي جارًا له ثم استحى أن يعطيه وقد بدأ بآخر قبله فبعث عليه وصب عليه المال صبًا وكان مروان قد تحول إلى دمشق فسكنها وقدم بغداد فحدث بها فروى عنه قتيبة وأحمد بن حنبل ويحيى وأبو خيثمة وابن راهويه ثم عاد إلى مكة وكان ثقة إلا أنه كان يروي عن ضعاف ويدلسهم ‏.‏

أخبرنا القزاز أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا ابن الفضل حدثنا عبد اللّه بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان قال‏:‏ سمعت مهديِ بن أبي مهدي قال‏:‏ كان في خلق الفزاري شراسة وكان معيلًا شديد الحاجة وكان الناس يبرونه فإذا بره الإنسان كان ما دام ذلك البر عنده في منزله يعرف فيه الانبساط إلى الرجل ‏.‏

قال‏:‏ فنظرت فلم أجد شيئًا أبقى في منزل الرجل من الخل ولا أرخص منه بمكة فكنت أشتري جرة من خل فأهدي له فأرى موقع ذلك منه فإذا فني أرى ذلك منه فأسأل الجارية‏:‏ أفني خلكم فتقول‏:‏ نعم فأشتري جرة فأهديها له فيعود إلى ما كان عليه توفي بمكة قبل التروية بيوم من هذه السنة ‏.‏

هارون الرشيد أمير المؤمنين ابن المهدي ‏.‏

كان بالرقة وكان جبرئيل بن بختيشوع يدخل عليه كل يوم فإن أنكر شيئًا وصفه له فذكر له ما يصلح فدخل عليه يومًا فرآه مهتمًا فسأله عن حاله فقال‏:‏ لرؤيا رأيتها أفزعتني ‏.‏

فقال‏:‏ لعلها من بخارات رديئة أو من تهاويل السوداء‏:‏ فقال‏:‏ رأيت كأني جالس على سريري هذا إذ مُدَتْ إليَّ من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها وفي الكف تربة حمراء فقال لي قائل أسمعه ولا أرى صفته‏:‏ هذه التربة التي تدفن فيها ‏.‏

فقلت‏:‏ أين هذه التربة فقال‏:‏ بطوس وغابت اليد وانتبهت ‏.‏

فقال له الطبيب‏:‏ أحسبك أخذت مضجعك ففكرت في خُراسان وحروبها ‏.‏

فقال‏:‏ قد كان ذلك ومرت الأيام ونسي واتفق خروجه إلى خراسان حين تحرك رافع الخارجي فلما كان ببعض الطريق ابتدأت به العلة وما زالت تزيد حتى دخل إلى طوس فمرض في بستان هناك فبينا هو في البستان وذكر تلك الرؤيا فوثب متحاملًا يقوم ويسقط فاجتمعوا إليه كل يقول‏:‏ يا سيدي ما جاء لك ‏.‏

فقال‏:‏ يا جبريل تذكر رؤياي بالرقة في طوس ‏.‏

ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال‏:‏ جئني من تربة هذا البستان فمضى وأتى بالتربة في كفه حاسرًا عن ذراعه فلما نظر إليه قال‏:‏ والله هذه الذراع التي رأيتها في منامي وهذا والله الكف بعينه وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئًا ‏.‏

وأقبل على البكاء والنحيب بعد هذا الكلام ثلاثة أيام ‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ أنه رأى في المنام أن امرأة وقفت عليه وأخذت كف تراب وقالت‏:‏ هذه تربتك عن قليل ‏.‏

فأصبح فزعًا فقدر رؤياه فقال له أصحابه‏:‏ وما في هذا قد يرى النائم أغلظ من هذا ‏.‏

فبينا هو يومًا يسير إذ نظر إلى امرإة فقال‏:‏ هذه والله المرأة التي رأيتها في منامي ولقد رأيتها بين ألف امرأة ما خفيت علي ثم أمرها أن تأخذ كفًا من تراب فتناوله فضربت بيدها الأرض وناولته فقال‏:‏ هذه واللهّ التربة التي رأيتها وهذه المرأة بعينها وكان إذ مات هناك ‏.‏

وروى الصولي قال‏:‏ حدثني حسين بن يحيى قال‏:‏ سمعت هبة الله بن إبراهيم بن المهدي يحدث عنه أبيه قال‏:‏ أحب الرشيد أن يعرف حقيقة علته وعلم أن ابن بختيشوع يكتمه فواطأ إنسانًا من أهل طوس وسأله أن يلاطف بختيشوع ففعل ثم أعطى الرجل ماءه وقال له‏:‏ إذهب به إلى ابن بختيشوع على أنه ماء لمريض لك ‏.‏

ففعل الرجل ذلك فلما رأى ابن بختيشوع الماء قال لبعض ففطن الذي جاء بالماء فقال لابن بختيشوع‏:‏ اتق الله في فإن بيني وبين هذا الرجل معاملات فإن كان يعيش لم استقص عليه وإن كان يموت فرغت مما بيني وبينه فقال‏:‏ تريد أن أصدقك قال‏:‏ نعم ‏.‏

قال‏:‏ صاحب هذا الماء لا يعيش إلا أيامًا فعاد الرسول وأخبر الرشيد بذلك ‏.‏

وعلم ابن بختيشوع بالأمر فاختفى إلى أن مات الرشيد ولما قرب موت الرشيد جعل يقول‏:‏ إني بطوس مقيم مالي بطوس حميم أرجو إلهي لما بي فإنه بي رحيم لقد أتاني بطوس قضاؤه المحتوم وقال‏:‏ احفروا لي قبرًا فحفروا له في ذلك البستان ‏.‏

فقال‏:‏ احملوني أنظر إليه فحمل فنظر إليه فجعل يقول‏:‏ أغثني أغثني وارحم عبرتي ‏.‏

ثم قال‏:‏ قربوني قليلًا فقربوه فنظر في القبر فقال‏:‏ وسعوا عند الصدر قليلًا ففعلوا وهو ينظر وأنزل قومًا فختموا فيه القرآن وقال‏:‏ مدوا موضع الرجلين ففعلوا وهو في محلة على شفير القبر ثم شخص ببصره إلى السماء وقال‏:‏ يا من لا يموت ارحم مَنْ يموت يا من لا يزول ملكه ارحم مَنْ قد زال ملكه ثم بكى بكاءً شديدًا وأنشد‏:‏ أنا مَيْتٌ وعز مَنْ لايموت قد تيقنت أنني سأموت وتوفي ليلة الأحد وقيل‏:‏ ليلة السبت نصف الليل لغرة جمادى الأولى لثلاث خلون منه من سنة ثلاث وتسعين فكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يومًا وكان له سبع وأربعون سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام ‏.‏

وقيل‏:‏ خمس وأربعون سنة ‏.‏

وقيل‏:‏ ست وأربعون وصلى عليه ابنه ‏.‏

وتوفي وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف وذكر بعض المؤرخين أنه خلف ما لم يخلفه أحد من الملوك من العين والورق والجوهر والدواب والأثاث ما بلغ قيمته سوى قيمة الضياع‏:‏ مائة ألف ألف دينار ورثاه أبو الشيص فقال‏:‏ غربت في الشرق شمس فلها العينان تدمع مارأينا قط شمسًا غربت من حيث تطلع أبو بكر بن عياش بن سالم بن الحناط مولى واصل بن حيان الأسدي وقد اختلفوا في اسمه فقيل‏:‏ شعبة وقيل‏:‏ محمد وقيل‏:‏ مطرف وقيل‏:‏ رؤبة وقيل‏:‏ سالم وقيل‏:‏ اسمه كنيته ولد سنة سبع وتسعين وقيل‏:‏ أربع وتسعين وقيل‏:‏ خمس وتسعين وقيل‏:‏ ست وتسعين سمع أبا إسحاق السبيعي وسليمان التيمي والأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة وغيرهم روى عنه‏:‏ ابن المبارك وابن مهدي وحسين الجعفي وأحمد بن حنبل وعلى بن المديني وغيرهم وكان ثقة متشددًا في السُّنَّة إلا أنه ربما أخطأ في الحديث ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا البرقاني قال‏:‏ قرأت على أبي القاسم النحاس أخبرنا ابن أبي داود حدثنا إسحاق بن وهب قال‏:‏ سمعت يزيد بن هارون وذُكر عنده أبو بكر بن عياش فقال‏:‏ كان أبو بكر بن عيّاش خيرًا فاضلًا لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة ‏.‏

أخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي أخبرنا محمد بن جعفر التميمي بالكوفة أخبرنا أبو بكر الدارمي حدثنا الحسن بن يحيى بن أبان عن ابن هشام الرفاعي قال‏:‏ سمعت أبا بكر بن عياش يقول‏:‏ لي غرفة قد عجزت عن الصعود إليها وما يمنعني من النزول منها إلا أني أختم فيها القرآن كل يوم وليلة ختمة ستون سنة ‏.‏

أخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر - الدوادي حدثنا محمد بن العباس بن الفرات حدثنا محمد بن عبد اللّه بن إبراهيم حدثنا أبو شيح الأصبهاني حدثنا دلويه قال‏:‏ سمعت عليًا - يعني ابن محمد ابن أخت يعلى بن عبيد - يقول‏:‏ مكث أبو بكر بن عياش عشرين سنة وقد نزل الماء في إحدى عينيه ما يعلم به أهله ‏.‏

وأخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق حدثنا محمد بن أحمد بن البراء حدثنا إسحاق بن الحسين قال‏:‏ كان أبو بكر بن عياش لما كبر يأخذ إفطاره ثم يغمسه في إناء في جر كان له في بيت مظلم ويقول‏:‏ يا ملائكتي طالت صحبتي لكما فإن كان لكما عند اللّه شفاعة فاشفعا وتوفي أبو بكر بن عياش في هذه السنة وقد جاز التسعين وقد قيل أنه جاز ستًا وتسعين ‏.‏

وأخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب أخبرنا ابن بشر أخبرنا ابن صفوان أخبرنا ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن المثنى قال‏:‏ سمعت إبراهيم بن شماس قال‏:‏ سمعت إِبراهيم بن أبي بكر بن عياش يقول‏:‏ شهدت أبي عند الموت فبكيت فقال‏:‏ يا بني ما يبكيك فما أتى أبوك فاحشة قط ‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة يذكر ما فيها في أول الجزء العاشر التالي لهذا إن شاء الله تعالى والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏